الخميس، 3 مارس 2011

الجزء الأول : قراءة خاصة في تجربة حزب “العدالة والتنمية” التركي




تركيا بلد المتناقضات والألوان المختلطة من جهة الجغرافيا هي بلد يمتد بين قارتين، ورغم أن معظمه يقع في آسيا، وهو ما اتخذه الرئيس الفرنسي السابق تعلة لتأسيس رفض انتمائه إلى أوروبا، بل اعتبر انتماءه للاتحاد بمثابة الإجهاز عليه. أما من جهة النظام السياسي فهي بلد ديمقراطي، بل لعلها أقدم ديمقراطية في المنطقة، إذ ظلت صناديق الاقتراع تفرز برلمانات وحكومات، من دون أن يشكك أحد في مصداقيتها، مما هو غريب في دول حديثة مشابهة من جهة تاريخ العلاقة بالحداثة، مثل مصر وتونس. ومع ذلك فالبلد تداولت عليه فترات الديمقراطية والانقلابات العسكرية. وكان آخرها انقلاب 1980 الذي وضع حداً لفوضى الاقتتال بين الجماعات القومية واليسارية، كما أراد أن يضع حداً لصعود الإسلاميين. ولم يعد الجيش إلى ثكناته إلا بعد أن أعاد ترتيب الحياة السياسية، وضبط الهيكل العام للدولة على نحو يجعل للمؤسسة العسكرية سلطة الرقابة على سير العملية الديمقراطية، ومدى انضباطها بالإطار العلماني للدولة، وبجملة الاختيارات الكبرى الاقتصادية والعسكرية والعلاقات الدولية، وذلك عبر سلطة مجلس الأمن القومي، الذي بلغ سلطانه حد طرده رئيس وزراء منتخب، بل وإيقاف العملية الديمقراطية ذاتها، وحل الأحزاب، والزج برؤسائها في السجون، من أجل إعادة ترتيب الأوضاع بما جعل العسكر هم الدولة في المحصلة النهائية. من جهة الثقافة، تركيا بلد القطائع والمتناقضات الشديدة، فقد حولها انقلاب النخبة المتغربة (نخبة جماعة الدونمة أي اليهود المتأسلمون بعد طردهم من الأندلس، والتجائهم إلى حاضرة الخلافة) بقيادة مصطفى كمال أتاتورك، من عاصمة الأمة الإسلامية المترامية الأطراف، عبر القارات الثلاث، إلى دولة قومية شوفينية، في تعصبها للعنصر التركي، وعلمانية متطرفة حاربت الإسلام بكل ما ملكت من وسائل، وراهنت على استبدال الهوية الإسلامية العثمانية بهوية قومية علمانية أوروبية، عبر حملة شاملة على كل مؤسسات الإسلام التعليمية والوقفية والشعائرية بل التشريعية والدولية. لقد غيّرت الدولة قبلتها بالكامل، ولم تدخر جهداً في حمل الشعب على ذلك، رغم أن تجربة ثلاثة أرباع قرن أثبتت أن تغيير هويّات الشعوب أمر بالغ العسر، بسبب ما أبداه الشعب من مقاومة متعددة الأشكال، كان من بينها صعود حزب من داخل النخبة العلمانية العسكرية في الخمسينات، بقيادة عدنان مندريس، وفتح ثغرة محدودة في جدار العلمانية المتطرفة في عدائها للإسلام، التي أرساها مؤسس الجمهورية. وتتمثل هذه الثغرة البسيطة في الاتجاه إلى الاعتراف بالهوية الإسلامية لتركيا، عبر السماح بأداء الأذان بالعربية، ما جعل الناس يخرون سجداً ويبكون فرحاً، وكذا الإذن بفتح معاهد لتخريج الأئمة والخطباء. ورغم أن هذه السياسة لم تستمر أطول من الفترة بين 1950 و1960، إذ تم التصدي لها بكل عنف، من قبل حراس المعبد العلماني، الذين انقلبوا على الديمقراطية، بعد أن كانوا قد بدأوا بالانقلاب على الإسلام، فعلّقوا رئيس الوزراء المنتخب عدنان مندريس، ورئيس الجمهورية جلال بايار على المشنقة… وبعد أن أعادوا ترتيب الأوضاع، وبضغط من الشركاء الأوروبيين، من أجل الحفاظ على مستوى من الانسجام مع الوجه الأوروبي، الذي تحرص عليه النخبة، أو المفروض عليها، تمت العودة إلى الديمقراطية، غير أنها أفرزت مرة أخرى حزباً علمانياً معتدلاً بزعامة شخصية معتدلة قريبة من الجماعات الصوفية هو سليمان ديميريل، الذي استأنف على نحو ما سياسة مندريس من جهة السماح بالممارسة الدينية، وهو نفسه كان معروفاً بأداء الصلاة. وفي عهده استأنفت الحركة الإسلامية بزعامة البروفسور نجم الدين أربكان عملها، ضمن حزب جديد هو حزب السلامة الوطني، الذي ظهر على أثر ما شهدته الساحة من صراعات اليمين واليسار وتشتت الأحزاب، ما أتاح لأربكان فرصة التحالف مع مختلف الأحزاب العلمانية لتشكيل الحكومة مرة مع اليسار بزعامة أجاويد، "رئيساً للوزراء"، ومرتين مع حزب العدالة بزعامة ديميريل. قدمت هذه التحالفات الغطاء السياسي الضروري لنمو بنية تحتية قوية للإسلام، تمثلت في إشادة سلسلة واسعة من المدارس الثانوية والابتدائية لتخريج الأئمة والخطباء، واستقبلتهم كليات الشريعة لمواصلة تعلمهم ثم انفتحت في وجوههم مختلف أبواب الاختصاصات، وفك الحصار عن المساجد والتدين عامة. غير أنه أمام صعود الإسلاميين واشتداد حمى الصدام بين المتطرفين من اليمين واليسار، تدخلت المؤسسة العسكرية الوصي على تراث أتاتورك لتضع حداً لصعود الإسلاميين المتزايد مع اندلاع الثورة الإسلامية في إيران، من جهة، وللفوضى من جهة أخرى. ولم تعد إلى ثكناتها إلا بعد أن وضعت الوثيقة الدستورية الرابعة، التي نصبّت المؤسسة العسكرية عبر مجلس الأمن القومي حارساً ووصياً على تراث أتاتورك، كما سبق، وتسلم تورغت أوزال رئاسة الوزراء، فما لبث أن أعاد منهج مندريس إلى الواجهة في خطوة تهدف إلى مصالحة تركيا الحديثة مع هويتها الإسلامية والتخفف من تصلب العلمانية الأتاتوركية المعادية للإسلام. ضمن هذه الأجواء، تفاعلت مجموعة عوامل سياسية داخلية وخارجية، لتعزز من موقع الإسلام السياسي، فمن عودة الحركة الإسلامية في صيغتها الجديدة المتمثلة بحزب الرفاه بزعامة نجم الدين أربكان، وتفشّي الفساد وسط النخبة العلمانية للأحزاب، وتعطش الشعب للهوية، والأزمة الاقتصادية، إلى استمرار انغلاق البوابة الأوروبية في وجه تركيا، مروراً بانتشار الكتاب الإسلامي بفعل الترجمات السريعة لكل ما ينشر في العالم الإسلامي، ولا سيما من قبل كتّاب الحركة الإسلامية في تيارها الوسطي، كل هذه الأمور كان لها الأثر في تعزيز المد الإسلامي، حتى بات حزب «الرفاه» على رأس الأحزاب التركية بنسبة فاقت 22% من أصوات الناخبين، فأمكن لما يسمى الإسلام السياسي أو الحركة الإسلامية تشكيل الحكومة لأول مرة في تاريخ الدولة التركية الحديثة، متحالفاً مرة أخرى مع حزب علماني محافظ، تتزعمه سيدة هي تانسو تشيلر، وذلك سنة 1996 غير أن حراس المعبد العلماني قد استنفروا مصممين على الإطاحة بأربكان وحزبه، رغم كل التنازلات، التي قدمها للتواؤم مع شعائر المعبد، من مثل الوقوف على قبر أتاتورك، وأداء التحية له، واستقبال مسؤولين إسرائيليين، والمحافظة على الارتباطات الأطلسية والأوروبية. ولكنهم نقموا عليه بسبب مدّه جسوراً قوية مع الجوار العربي والعالم الإسلامي عامة، بمبادرته لزيارة عدد من الأقطار العربية والإسلامية مثل (ليبيا ومصر وإيران)، وعمله في تأسيس نادي الثمانية G8 للدول الإسلامية الكبرى، مقابل نادي السبعة للدول الرأسمالية الكبرىG7. واستضافته في شهر رمضان بعض رموز الصوفية والأئمة الكبار. ورغم أن أداء أربكان الاقتصادي كان عظيماً في النزول بالتضخم والبطالة والدين الخارجي إلى أدنى نسبة، بالقياس إلى الحكومات السابقة، ورغم أدائه المتميز غير المسبوق للبلديات، التي تديرها جماعة الرفاه، إلا أن ذلك وبقدر ما رفع مكانة الإسلاميين لدى الشعب، بقدر ما رفع مستوى نقمة الباب العالي (الهيئة العليا لرجال الأعمال والصحافة وقادة العسكر)، فصعّدوا الضغط عليه حتى حملوه على الاستقالة، وحركوا أداة أخرى من أدوات سيطرتهم (المحكمة العليا) فحلت حزباً في أوج عطائه، بنفس الاتهام الثقافي المعتاد: النيل من هوية الدولة العلمانية. وشنت على التيار الإسلامي ما يشبه حرب إبادة، وذلك على إثر ما استبد بأذهان حراس المعبد العلماني، من شعور بأن الحياة من حولهم بقيادة رئيس الوزراء، زعيم الحركة الإسلامية، اتجهت قدماً في اتجاه الإسلام، بما يهدد بتغيير طبيعة الدولة، فانعقد مجلس الأمن القومي في اجتماع عاصف اشتهر باجتماع28 فبراير 1997 الذي صدر عنه 18 بنداً، هي جملة من الإجراءات الصارمة ضد التيار الإسلامي على كل الصعد الاقتصادية والتعليمية والاجتماعية، وأمر رئيس الوزراء الإسلامي بتنفيذها، ما اضطرّه إلى الاستقالة، لتدخل بعده تركيا في طور عصيب من الاضطراب السياسي والثقافي والفساد الاقتصادي المهدد بالانهيار. واستمرت هذه المرحلة العصيبة، التي عرفت بمرحلة 28 فبراير، ولم تنته إلا بانهيار الطبقة السياسية بيمينها ويسارها، وجملة أحزابها تقريباً، ليعود التيار الإسلامي بعد خمس سنوات في ثوب جديد بزعامة شابة، تربت في أحضان المعاهد الدينية، ثم في الحركة الإسلامية خلال عقدين، وشملتها موجة الاضطهاد. وتمثّلت هذه الزعامة بشخصية الطيب رجب أردوغان، الذي أطيح به من رئاسة بلدية من أكبر البلديات في العالم، حيث تجلت فيها عبقريته، إذ توصّل إلى حل مشكلات حياتية فشل فيها كل من سبقه، فأحاطه الناس بحب عظيم. ولم يشفع له ذلك من العزل والزج به في السجن. لقد أفضى الحكم العسكري إلى إقصاء زعيم الحزب أربكان من السياسة، ما اضطره أن يمارسها من وراء ستار، من خلال حزب جديد هو حزب الفضيلة، دفع إلى قيادته أحد رفاقه هو المحامي رجائي قوطان، وحافظ الحزب على مكانه على رأس الأحزاب، لكن في المعارضة. ولم يرض ذلك الباب العالي، فصدر قرار بحلّه، فتشكل حزب السعادة بديلاً له. وفي مؤتمره تحدى تيار الشباب بزعامة عبد اللَّه غول وأردوغان قيادة الحزب المتمتعة بثقة أربكان. وكاد غول أن يفوز بالقيادة، ليضع موضع التنفيذ البرنامج الإصلاحي الذي يطالب به هو وأردوغان، فلما لم يحصل ذلك انطلق هذا التيار إلى تشكيل حزب جديد انحاز إليه51% من نواب الحزب في البرلمان. وكانت الفكرة الأساسية لحزب «العدالة والتنمية»، الحزب الجديد من أحزاب الحركة الإسلامية، تحمل جملة من التعديلات على السياسات المعهودة في هذا التيار، اعتباراً بما حدث في السنوات الست العصيبة الماضية، حيث تعرضت الحركة الإسلامية لمخطط إقصاء واستئصال وكسر عظم، على يد صاحب السلطة العليا الجيش. لقد كان من أهم الدروس التي استقاها الحزب الجديد تجنب كل ما يفضي إلى تجدد الصدام مع صاحب السلطة، بل العمل على كسب ثقته، وكذا تجنب الصدام مع العسكر ومعبدهم العلماني، وهو ما لا يمكن تحقيقه مع استمرار زعامة أربكان، الطرف المباشر في ذلك الصدام. وكذا إعطاء الأولوية للعلاقة مع أوروبا وللاقتصاد، والابتعاد عن إثارة المعارك حول بعض القضايا الحساسة، مثل الحجاب، باعتباره من أسخن ساحات الصراع بين التيار الإسلامي والتيار العلماني، الذي لم يتردد في طرد نائبة من البرلمان، وشطبها، رغم أنها منتخبة… فقط بسبب إصرارها على غطاء الرأس، وهو ممنوع بنص دستوري، مع أن الزائر لتركيا يفاجأ بالحجم الواسع لانتشار الحجاب، حيث يتراوح في مدينة مثل إسطنبول بين 70 إلى 80%، على حين أن أبسط معنى للديمقراطية أن تكون السلطة معبرة عن إرادة الشعب كله أو أغلبه على الأقل، وهذا مثل آخر صارخ على ما تتلظى به الحياة التركية من تناقضات، فهي خليط من إسلام وعلمانية، عثمانية وأوروبية، دكتاتورية وديمقراطية، حكم الشعب وحكم العسكر، بين شارع يملأه الإسلام ودستور يحاربه. هذا هو الواقع الذي يجب التعامل معه بالحكمة، والرهان على النفس الطويل في التطوير، وتأجيل طرح المحاور المثيرة، وإعادة ترتيب الأولويات، وإيلاء قضايا المعاش، وحقوق الإنسان، واحترام القانون، ومقاومة الفساد في نخبة الحكم الأهمية الكبرى، وتهيئة البلد للانضمام إلى أوروبا سبيلاً اخر للتقوي على الباب العالي الجديد، والحد من سلطانه المطلق.

ليست هناك تعليقات:

عدد الزوار

Hit Counter