مدير مركز الدراسات الاستراتيجية روسيا والعالم الإسلامي
نشر في صحيفة زافترا الروسية بتاريخ 29/6/2011
ستالين وترومان
ظهرت دولة "اسرائيل" في مايو 1948 وفقا لقرار الجمعية العامة للامم المتحدة في تشرين الثاني (1947)، وكان هذا قرارا شكليا للغاية، لأن إقامة دولة يهودية مصطنعة في قلب العالم العربي أصبح ممكنا فقط بفضل النوايا الاستراتيجية لزعماء الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي -- أقوى الدول في فترة ما بعد الحرب।
لعبت العوامل المعنوية والعاطفية المرتبطة بمصير اليهود في أوروبا بعد الاحتلال النازي دورا هامشيا لدى كل من ستالين وترومان. الهدف الأهم كان مختلفا. كل من الاتحاد السوفياتي والولايات المتحدة نظروا إلى دولة اليهود القادمة بوصفها أداة فعالة لتنفيذ مصالحهم طويلة الأجل في الشرق الأوسط.
انتهت الحرب العالمية الثانية، وبدأ تقسيم مناطق النفوذ بين القوتين العظميين الجديدتين في كل ركن من أركان هذا الكوكب. والأهمية الخاصة لمنطقة الشرق الأوسط الكبير كانت واضحة بالفعل في أذهان جميع السياسيين ذوي التفكير الاستراتيجي. فليس من قبيل الصدفة أن يسعى ستالين في ذلك الوقت للحصول على ليبيا تحت حماية الاتحاد السوفياتي.
لكن المنطقة كانت لا تزال تحت سيطرة الدول الاستعمارية الكبرى آنذاك - بريطانيا وفرنسا. رغم أن باريس ولندن خرجتا من الحرب العالمية الثانية في حالة ضعف شديد، إلا أن التخلي طوعا عن هيمنتهما في منطقة الشرق الأوسط الغنية بالنفط، لم يكن حسبانهما.
كان من المقرر ان تصبح "إسرائيل" بلدوزرا تحت السيطرة، من شأنه أن يساعد على تمهيد الطريق الى المنطقة سواء للاتحاد السوفياتي (كما رغب ستالين) أو للولايات المتحدة (كما أراد ترومان). ولكن الخطأ في الحسابات كان من نصيب ستالين. فقد أرسل الى فلسطين (التي كانت لا تزال تحت الانتداب البريطاني) الالاف من ضباط الجيش والمخابرات الذين اعتقد أنهم على درجة كبيرة من الثقة من اليهود الشيوعيين كي يقيم بمعونتهم "إسرائيل" الاشتراكية، ولكن ثبت أن نداء الدم أقوى من المعتقدات الشيوعية. واتضح سريعا أن ستالين "ألقي خارجا" .
ربما أصبحت هذه المحاولة الفاشلة مع "إسرائيل" وإن لم تكن وحدها، من أسباب كراهية ستالين العميقة، في فترة مبكرة من حياته السياسية ، لليهود. (ذات مرة قبل عام 1917، اقترح الزعيم المستقبلي إلى "حملة تنظيف" واسعة في صفوف الحزب لتخليصه من "سيطرة العناصر اليهودية" عليه، وربما كانت مجرد مزحة، ولكنها معبرة للغاية.) على أي حال قضية "الأطباء اليهود" او حملة " العالميون بلا جذور" (حملة أيديولوجية أجريت في الاتحاد السوفييتي في الأعوام 1948-1953، واستهدفت شريحة من المثقفين الحزبيين اليهود - المترجم) كانت هذه الحملات تحمل في طياتها أصداء فشل العملية الستالينية في الشرق الأوسط ذات الاسم الرمزي "إسرائيل".. في نهاية المطاف قتل ستالين، ولكن "النزعة المعادية لإسرائيل" بقيت بين خلفائه حتى غورباتشوف.
لكن الوضع في ذلك الوقت لم يكن صفوا كذلك في العلاقات بين الولايات المتحدة والدولة اليهودية المشكلة حديثا. الحكام "الإسرائيليون الأوائل" فضلوا الاعتماد أكثر على علاقاتهم التقليدية مع أوروبا ، حيث استقرت مراكز الصهيونية العالمية. لا سيما أنه منذ ما قبل الحرب العالمية الثانية، كانت أميركا إحدى البلدان العديدة التي تزدهر فيها معاداة السامية ليس فقط على مستوى شعبي بسيط، بل وعلى مستوى النخبة، والدوائر السياسية.
لذلك ، شاركت "إسرائيل" ، جنبا إلى جنب مع بريطانيا وفرنسا في حرب "العدوان الثلاثي" على مصر عام 1956 ، بعد أن أمم جمال عبد الناصر قناة السويس. كانت هذه هي المرة الوحيدة في تاريخ "الدولة" العبرية، التي تشارك فيها "إسرائيل" في الحرب ضد جيرانها العرب، دون أن تتلقى موافقة مسبقة من واشنطن.
وقفت موسكو التي كان لها آنذاك علاقات وطيدة مع مصر الثورية بحزم ضد هذا العدوان. القيادة السوفياتية صرحت انه إن لم توقف هذه الحرب فورا، فإن ثلاثمائة ألف من المسلمين السوفيات سوف يهرعون لنجدة إخوانهم في الدين المصريين. وعندما هرعت لندن وباريس المذعورتين طلبا لمساعدة الأمريكان صارحهم ايزنهاور، بأن التزامات حلف شمال الاطلسي للمساعدة المتبادلة لا تنسحب على المنطقة. نتيجة لذلك اضطر التحالف الثلاثي للخروج من المولد بلا حمص، وأصبح جمال عبد الناصر بطل القومية العربية ، وأخيرا أدركت تل أبيب والصهيونية العالمية الراعية لها على من يجب التركيز
"وبعد ذلك أجبرناهم على الركوع على ركبهم (ركّعناهم)..."
بدأ بناء تركيبات دقيقة ومعقدة جدا من أجل تكوين تحالف طويل الأمد بين الولايات المتحدة و"إسرائيل" ليس من أجل مصالح النخبة الأمريكية فقط، بل وكذلك من أجل مصالح تشكيلات الصهيونية العالمية المتنامية بسرعة كبيرة.
اليمين الأمريكي المتطرف يرون أن العملية التي أدت في النهاية إلى تشكيل "نظام احتلال صهيوني مؤقت" في الولايات المتحدة، قد تعززت بشدة خلال النصف الثاني من الخمسينات ، وبالدرجة الأولى من خلال "احتلال" الحزب الديمقراطي. ومع ذلك، في الواقع، لم يجر شيء غير عادي. جزء من النخبة الأمريكية المؤيدة للصهيونية بشكل خلاق للغاية استخدمت بمهارة ظاهرة "اسرائيل" من أجل توحيد المجتمعات اليهودية ورأس المال اليهودي لتعزيز موقفها السياسي في الولايات المتحدة.بشكل كبير
لهذا بالذات تم تطوير سلاح تنظيمي خاص واستخدامه بشكل موجه: تم تأسيس مئات بل آلاف المنظمات الداعمة تعبويا لإسرائيل على جميع المستويات – سواء المستوى الوطني العام أوعلى مستويات حكومات الولايات والبلديات، والتي تم لاحقا توحيدها وترتيبها بتراتبية معينة، تم تشكيل نظام لوبي خاص، وتصميم وتنفيذ سياسات الموارد البشرية على الصعد المالية والإعلامية، وتقديم الدعم المتنوع لصانعي السياسة الأميركية، المؤيدين "لاسرائيل" دون تحفظ، وجمعت موارد إعلامية وسياسية لتوسيع وتعزيز التحالف الأمريكي "الإسرائيلي"، ونفذت حملات أيديولوجية ودعائية خاصة.
في الواقع، تحت غطاء الحاجة لدعم كامل "لإسرائيل" تم تنفيذ مشروع استراتيجي ضخم لتشكيل آلية واسعة الأبعاد للسيطرة على آلة السلطة الاميركية من قبل المنظمات الصهيونية العالمية. ونتيجة لذلك، فإن في الولايات المتحدة اليوم ينشط مثلث سياسي "الولايات المتحدة - اللوبي المؤيد لإسرائيل (الذي يعتبر من ناحية المكون الصهيوني في المؤسسة الاميركية، ومن ناحية أخرى -- هو عنصر إداري أساسي في التشكيلات الصهيونية العالمية) -- و" اسرائيل".
في الفترة 1967-2006. جاء عصر الازدهار في التحالف الأمريكي "الإسرائيلي". فقد غدت الدولة الصهيونية الحليف الرئيسي للولايات المتحدة في الشرق الأوسط، مخلفة وراءها إيران الشاهنشاهية وتركيا، العضو في الناتو.
نسقت "إسرائيل" جميع عملياتها العسكرية ضد العرب، بشكل وثيق مع البنتاغون. وصلت الأمور إلى درجة أن واشنطن زودت "إسرائيل" بالسلاح النووي، الذي، مع ذلك، لا يزال تحت سيطرة الولايات المتحدة. ازداد نفوذ الولايات المتحدة السياسي في المنطقة بشكل كبير، وأصبح المهيمن في التسعينات، بعد انهيار الاتحاد السوفياتي. ولكن في نفس الوقت تعزز نفوذ التشكيلات الصهيونية العالمية فوق الوطنية، في السياسة الاميركية الداخلية والخارجية.
بلغ كل من هذين المسارين المترابطين قمة الذروة، في الفترة الرئاسية الأولى لجورج بوش الأصغر. فقد تشكل داخل الولايات المتحدة تحالف اجتماعي وسياسي واسع النطاق من اليهود الصهاينة والصهاينة البروتستانت، والذي تجسد في طروحات "المحافظين الجدد"..التي يمكن التعبير عن جوهرها بعبارة واحدة : "ما هو جيد بالنسبة للولايات المتحدة هو جيد " لإسرائيل " كذلك، والعكس بالعكس." جزء من النخبة الأميركية نظم عمليات 11 سبتمبر الاستفزازية، والتي أصبحت ذريعة لاعلان الحرب على العالم الإسلامي - المنافس الرئيسي ل "اسرائيل" من وجهة نظر المنظمات الصهيونية العالمية.
ديالكتيك (جدلية)
لكن التاريخ، كما نعلم، أشبه بسيدة متقلبة المزاج، ميالة لتصرفات غير قابلة للتنبؤ من قبل الناس.
من ناحية أصبح "إسرائيل" فعلا أداة هامة للسياسة الخارجية الأميركية في الشرق الأوسط. ولكن من ناحية أخرى، تحولت الدولة الصهيونية بالذات إلى عامل أساسي مؤجج للراديكالية والتطرف في الشرق العربي.
من جهة أصبحت "إسرائيل" قاعدة انطلاق قوية للحضارة الغربية في المنطقة، واجهة عرض للديمقراطية الغربية والعلمانية الغربية. ولكن من جهة أخرى ، فإن وجود "إسرائيل" بالذات أصبح واحدا من الإرهاصات الأساسية لنهضة اسلامية قوية في العالم. وعلاوة على ذلك، فلو لم تكن "إسرائيل" لما جرى ذلك التدهور السريع في السنوات الأخيرة للأيديولوجيات الليبرالية والعلمانية وأحزابها في العالم العربي.
من ناحية ، ثنائي "إسرائيل" والولايات المتحدة الأمريكية " أصبح لمئات الملايين من المسلمين في جميع أنحاء العالم رمزا للظلم المطلق، شكلا لاأخلاقيا للعدوان الاستعماري، للعدو فاقد الرحمة، الذي لا يفهم سوى لغة القوة.." اسرائيل " احتلت الأراضي التي كانت موطنا للفلسطينيين خلال آلاف السنين، تحت مبررات غبية للغاية، أن اليهود عاشوا يوما ما على هذه الأرض وطردوا منها، وفقط لهذا السبب فإنهم يملكون الحق التاريخي للسيطرة على هذه الأرض، ولكن اليوم حتى أشهر العلماء الإسرائيليين يثبتون أن اليهود في الحقيقة لم يطردوا يوما من قبل الرومان من يهودا ذلك العهد.
تخيل للحظة أنك فلسطيني. تعيش في شقتك التي تملكها بشكل قانوني ، والتي خلفها لك والداك..وفجأة ودون مقدمات يقتحم عدد من الرجال المسلحين شقتك، وبكل وقاحة يطالبونك بالرحيل فورا..وردا على سؤالك بلهفة المنصعق "لماذا؟" تتلقى نقريبا الجواب التالي: "قبل ألفي سنة كان هذا المكان أحد محطات قبيلتنا اليهودية، ولهذا السبب بالذات فإن لنا مطلق الحق القانوني في شقتك، وإن لم توافق أيها الوغد على وجهة نظرنا، فإننا سنقضي عليك وجميع أفراد عائلتك، فانصرف خارجا! ". كان هذا هو مبرر الصهاينة "التاريخي" من أجل حرمان أبناء الشعب الفلسطيني من أرضهم ومنازلهم وأملاكهم، وآثارهم التاريخية ، ومقابرهم التي تحوي عظام أسلافهم.
غير أن الحسم بطبيعة الحال، كان لطموحات ستالين وترومان السياسية.
ولكن ، من ناحية أخرى ، فإن النضال لأكثر من سبعة عقود ضد "اسرائيل" ساهم في نمو وتشكل الوعي الوطني والاجتماعي والسياسي للشعب الفلسطيني. فالفلسطينيون اليوم – هم أحد أكثر شعوب العالم تقدما وشجاعة. فعلى سبيل المثال ، فحسب عدد الطلاب لكل ألف نسمة من السكان فإن الفلسطينيين يتفوقون بالفعل حتى على روسيا. وحسب عدد الشهداء الأبطال ، الذين يذكرهم الفلسطينيون دوما بكل اعتزاز وفخر، فأعتقد أنلا نظير لهم على وجه البسيطة. وبالمناسبة فإن "إسرائيل" تفتقر لهذا التقديس للأبطال، كما في روسيا الحديثة "الديمقراطية" كذلك.
لو لم يوجد العامل الصهيوني، لربما كان قطاع غزة قد ضم الى مصر ولتحول سكانه من فلسطينيين إلى مصريين ولأصبح سكان الضفة الغربية أردنيين.
ضرورة النضال ضد "اسرائيل" أصبحت إحدى أقوى الدوافع للثورة الايرانية في الأعوام 1978-1979. وكما هو معلوم، فإن الشاه كان صديقا حميما للدولة للصهيونية. الوجود الصهيوني في الشرق الأوسط أصبح أحد الأسباب المهمة لوصول القوى الإسلامية الأصولية المعتدلة الى السلطة في كل من إيران وتركيا، ، ونتيجة لذلك بدأ يتغير جذريا ميزان القوى في سائر منطقة الشرق الأوسط. بدأت أخيرا وليس ثانويا الدور الذي لعبته المشاعر المعادية لإسرائيل في الثورة العربية الحالية. غير أن هذا العامل سيتعزز مع الوقت. سياسة الدولةالصهيونية ستؤدي بشكل طبيعي إلى تزايد موجات العداء السامية عالميا، والتي لاحظتها، بالمناسبة، حتى المراكز الصهيونية نفسها، بما في ذلك المؤتمر اليهودي الروسي
العسكر أم الصهاينة... من يفوز؟
مباشرة بعد سنة ونصف من الغزو الامريكي للعراق في عام 2003 ، أصبحت "إسرائيل" سببا لمواجهة جديدة أوسع داخل المؤسسة السياسية العليا في الولايات المتحدة. وطفى على السطح الصراع بين أكثر فريقين قدرة داخل النخبة الأميركية – فريق العسكر والفريق الموالي "لإسرائيل".
حتى بدايات العام 2005 خلصت وزارة الدفاع الامريكية إلى ان هزيمة "المتمردين" وفرض رقابة فعالة على العراق يكاد يكون ضربا من المستحيل. غزو العراق أصبح ، في جوهره ، شركا جيوسياسيا للولايات المتحدة، لأن العراق المحتل اصبح نقطة زعزعة استقرار لكامل منطقة الشرق الأوسط الكبير، التي تكتسي أهمية خاصة بالنسبة لمصالح الولايات المتحدة الحيوية. غزو العراق أدى موضوعيا إلى زيادة اعتماد الولايات المتحدة على ايران التي تمتلك أدوات للتأثير على الوضع العراقي الداخلي أكثر من واشنطن بكثير.
بطبيعة الحال، اندلعت داخل النخبة الأميركية، مناقشات حامية حول "من هو المسؤول عن إيقاع الأميركيين كالخراف في هذه المغامرة الخاسرة؟" عقدت عشرات الجلسات للعصف الذهني وورش عمل خاصة، ودبجت المئات من المقالات ونشرت العديد من الكتب.
ذلك الجزء من المؤسسة السياسية الأميركية، الذي هاجم سياسة المحافظين الجدد وإدارة بوش الأصغر متهما إياهم بالطيش والحماقة لإهدارهم الرصيد الاستراتيجي للولايات المتحدة بوصفها القوة العظمى الوحيدة في معارك أفغانستان والعراق، في الختام، جاءت الخلاصة أن الدور الرئيسي في إشعال الحرب وتوجيهها ضد صدام حسين قامت به المؤسسة "الإسرائيلية" واللوبي الأمريكي المؤيد "لإسرائيل".. وتبع ذلك بالتالي استنتاجات تنظيمية.
في ديسمبر 2006م، عين وزير حرب جديد في الولايات المتحدة هو روبرت غيتس، أحد كبار ممثلي النخبة الأميركية ورئيس اللوبي العسكري الأمريكي، الذي كان من المقرر أن يجري تعديلات كبيرة في السياسة الخارجية. عارض تعيينه في هذا المنصب آنذاك نائب الرئيس ديك تشيني – القائد الفعلي لفكر المحافظين الجدد.
في العام 2008 ، في مدينة فيلادلفيا في شهر يونيو عقدت جلسة سرية لكبار ممثلي النخبة الأميركية مع باراك أوباما وهيلاري كلينتون. وتحت إلحاح اللوبي العسكري توصلوا إلى اتفاق تسوية على أن يكون الرئيس القادم باراك أوباما، ولكن هيلاري كلينتون، التي راهنت عليها الصهيونية العالمية ينبغي أن تتلقى تعويضا كوزيرة للخارجية.
بعد الانتخابات الرئاسية الصراع في المستويات العليا للنخبة الاميركية لم يتوقف. فلم يمكن اللوبي الإسرائيلي، أوباما ومن يقف خلفه من النخبة العسكرية الأمريكية من تعيين مرشحيهم لبعض المناصب الحكومية، متهمما إياهم بحمل وجهات النظر معادية "لإسرائيل".
تصاعدت المواجهة داخل النخب في الولايات المتحدة تبعا لتطور البرنامج النووي الايراني. فقد اشتبه العسكر الاميركي ان "اسرائيل"، جنبا إلى جنب مع رعاتها من المنظمات الصهيونية العالمية ، تسعى لاثارة حرب مباشرة بين الولايات المتحدة إيران. أي عسكري ذي عقل سوي يدرك أن مثل هذه الحرب ستصبح على الفور خارج السيطرة، وتشمل في أتونها المنطقة بأسرها، ومن ثم ستكتسب طابعا عالميا. وبالمناسبة تسببت هذه المشكلة بزيادة حادة في الخلافات حتى بين حكومة نتنياهو والعسكر "الإسرائيليين" واسعي النفوذ.
سؤال مهم: لماذا تحتاج النخبة "الإسرائيلية" المهيمنة الآن، والأهم من ذلك الحركة الصهيونية العالمية إلى هذه الحرب بين ايران والولايات المتحدة، والتي يمكن أن تؤدي إلى عواقب وخيمة للغاية، وخصوصا بالنسبة "للشعب اليهودي" نفسه؟
تصاعدت الأمور إلى حد أنه حتى زبيغنيو بريجنسكي الشهير اضطر إلى أن يعلن أنه إذا حلقت الطائرات "إسرائيلية" لقصف الأراضي الإيرانية، فإن الأميركيين سيضطرون لاعتراضها فوق العراق كي تجبر "الإسرائيليين" على العودة الى مطاراتهم.
للمرة الاولى في تاريخها، نشرت الاستخبارات الاميركية تنبؤاتها التقديرية، التي شككت فيها للغاية بشأن فرص "إسرائيل" في البقاء بعد العام 2025.
أعقب ذلك بيان علني صادر عن الجنرال ديفيد باتريوس، الذي كان قائد القيادة المركزية الأمريكية، ومن ثم القائد الاعلى للقوات الاميركية في افغانستان. هذا التصريح أصبح مؤشراعلى تزايد التوتر في العلاقات بين النخبة العسكرية الامريكية واللوبي الموالي "لإسرائيل".
خلف الصيغة الدبلوماسية في الواقع اختبأت رسالة قاسية للقيادة "الإسرائيلية" ملخصها التالي. سياسة "اسرائيل" تؤدي إلى افتعال مشاكل جديدة لأمريكا في العالم الإسلامي. والولايات المتحدة أن تدفع ثمن اللاعقلانية المتزايدة للقيادة "الاسرائيلية" من دماء جنودها، وتتكبد خسائر مالية ضخمة، وإضعاف موقفها في الشرق الأوسط. وهذا يحدث في الوقت الذي تتراجع القدرات السياسية والاقتصادية للولايات المتحدة في جميع أنحاء العالم، فيما تتحول الصين بالنسبة لواشنطن إلى تحد استراتيجي رئيسي.
وخلافا لمواقف أمريكا وأوروبا ، فإن غالبية النخبة "الاسرائيلية" الحالية لا تريد اي اتفاق حقيقي مع الفلسطينيين، ولن توافق تحت أي ظرف من الظروف على اقامة دولة فلسطينية مستقلة. "الدولة العبرية الحالية" قامت على أساس أنها لايمكن أن تعيش إلا في حالة "لا حرب ولا سلام، ولن تتخلى عن الأراضي المحتلة".
خلاصة القول هو أن "إسرائيل" لم تتمكن (ولم ترغب) بالدخول في النظام الإقليمي للشرق الأوسط، بينما يظهر التاريخ أن الدول، التي لم تتمكن من الاندماج في المنطقة (على سبيل المثال الإمارات الصليبية) حتما ستختفي عن الخريطة.
وأدت المواجهة بين العسكر الأمريكي واللوبي المناصر "لإسرائيل" إلى تفاقم الخلافات داخل الحركة الصهيونية العالمية، ويمكن القول أن تيارين تشكلا داخل الآلية الصهيونية
الأول - وهو ما يسمى " للصهيونية القومية" أنصار الدعم التقليدي غير المشروط لاسرائيل "كدولة يهودية قومية" مهما كان الثمن. "الصهيونية القومية" لا تزال هي المسيطرة داخل الحركة الصهيونية العالمية، ولكن مواقفهم في تراجع تدريجي. وأسباب ذلك كثيرة، ولكن يمكن أن نذكر عاملين اثنين فقط متعلقين مباشرة "بإسرائيل". بالدرجة الأولى، جاذبية صورة "اسرائيل" كوطن قومي "لجميع اليهود في العالم" قد تشوهت بشدة. وحقيقة أن المجتمع الإسرائيلي والنخبة الإسرائيلية تتحلل، لم تعد سرا. مثال واحد فقط. يتعلق بوزير الخارجية الاسرائيلي الحالي افيغدور ليبرمان الذي رفعت ضده بالفعل ست أو سبع قضايا جنائية متعلقة بالفساد وغسيل الأموال والنصب والاحتيال المالي.. الخ. والذي بمجرد ان يترك منصبه الوزاري ، فعلى الارجح سيلقى وراء القضبان. هذا بالنسبة للسؤال عن منظر النخبة الإسرائيلية الحالية!
عملية التدهور الأخلاقي والاجتماعي والسياسي للمجتمع الاسرائيلي ككل، تعززت بشكل خاص في السنوات العشرين الماضية. من المفهوم لماذا عدد من اليهود المغادرين "لأرض الميعاد" أكبر من عدد القادمين إليها. بالإضافة إلى ذلك ، فإن إسرائيل لم تصبح دولة اليهود بل دولة الشعب الاسرائيلي (ما هذا -- عدد ضئيل من الناس يعرفون).
والاتجاه الثاني في الحركة الصهيونية العالمية -- هو ما يسمى "الصهيونية الإمبراطورية" الذين يرون مستقبل الصهيونية، ليس في "اسرائيل" ولكن في تعزيز التحالف الاستراتيجي مع أحد مراكز القوة العالمية. ولذا فإنهم يعتبرون أنه لايجب التضحية بمستقبل المجتمعات اليهويدية ورأس المال اليهودي في الولايات المتحدة من أجل "إسرائيل".. وحسب رأيهم فإنه لا الصين ولا أوروبا لأسباب مختلفة ، يمكن أن تكون ذلك الحليف الاستراتيجي طويل الأجل للصهيونية العالمية. ويتبقى فقط خياران : الولايات المتحدة وروسيا. وبالمناسبة، فليس من قبيل الصدفة أن نتنياهو، ليبرمان، وقادة المنظمات الصهيونية الروسية يتحدثون بشكل متزايد عن أهمية تحالف استراتيجي على المدى الطويل بين "إسرائيل" وروسيا.
***
تاريخ اسرائيل، في الشكل كما هو موجود حاليا، موضوعيا في طريقه للأفول. والمسألة ليست في أن الجيوش العربية سيطرت بشكل مفاجأ على الأراضي الإسرائيلية أو أن بعض المتطرفين الفلسطينيين تمكنوا فجأة من شل الحياة الاقتصادية والسياسية تماما في الدولة اليهودية. فهذا لن يحدث.
"إسرائيل" -- دولة مصطنعة اختلقتها قوى خارجية من أجل حل بعض المشاكل. هذه المهام لم تعد "إسرائيل" قادرة على القيام بها، لذا، تنتفي الحاجة إليها، عدا عن أنها ، بدأت موضوعيا تعيق، بما في ذلك الشعب اليهودي نفسه.